سورة النساء - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية: وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعده ولداً، فنزلت هذه الآية.
قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرّد عن البصريين، أن النكاح في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين. وقد سموا الوطء نفسه نكاحاً من غير عقد. قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة ***
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على العقد، قال الله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب: 49] وهو حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمّي العقد نكاحاً، لأنه سبّب إليه.
قوله تعالى: {إِلا ما قد سلف} فيه ستة أقوال.
أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فإن الله يغفره، قاله الضحاك، والمفضّل.
وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فإنكم تعذّبون به، إِلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم.
والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفراء.
والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب. وقال ابن الأنباري: لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة.
والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آبائِكم النساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إِلا ما قد سلف في جاهليتكم، من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن جرير.
والخامس: أنها بمعنى الواو فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: إِقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني.
والسادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إِلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: {إِنه} يعني النكاح، والفاحشة: ما يفحش ويقبح. والمقت: أشد البغض. وفي المراد بهذا المقت قولان:
أحدهما: أنه اسم لهذا النكاح، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتاً، ويُسمّون الولد منه: المقتي. فاعلموا أن هذا الذي حرِّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكراً في قلوبهم ممقوتاً عندهم. هذا قول الزجاج.
والثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله: {وساء سبيلاً} قال ابن قتيبة: أي: قبُح هذا الفعل طريقاً.


قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} قال الزجاج: الأصل في أمّهات: أمّات، ولكن الهاء زيدت مؤكّدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإِنما أصله: أرقت.
قوله تعالى: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} إنما سُمّين أمهات، لموضع الحرمة.
واختلفوا هل يعتبر في الرضاع العدد، أم لا؟ فنقل حنبل، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاووس، والشعبي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ونقل محمد بن العباس، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث، عن أحمد: لا يتعلق بأقل من خمس رضعات متفرقات وهو قول الشافعي.
قوله تعالى: {وأمهات نسائكم} أمهات النساء: يحرَّمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين، ومسروق، وعطاء، وطاووس، والحسن، والجمهور. وقال علي رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول: له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد، وعكرمة.
قوله تعالى: {وربائبكم} الربيبة: بنت امرأة الزوج من غيره. ومعنى الربيبة: مربوبة، لأن الرجل يربّيها، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل، لا على الشرط. قوله: {وحلائل أبنائكم} قال الزجاج: الحلائل: الأزواج. وحليلة: بمعنى مُحلَّة، وهي مشتقة من الحلال. وقال غيره: سُميت بذلك، لأنها تحل معه أينما كان. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الحليل: الزوج، والحليلة: المرأة، وسُمّيا بذلك، إِما لأنهما يحلان في موضع واحد، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه، أي: ينازله، أو لأن كل واحد منهما يحل إِزار صاحبه. قوله: {الذين من أصلابكم} قال عطاء: إِنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء. والكلام في قوله: {إلا ما قد سلف} على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها. وقد زادوا في هذا قولين آخرين. أحدهما: إِلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها، وهذا مروي عن عطاء، والسدي، وفيه ضعف لوجهين.
أحدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا، وليس كل الشرائع تتفق، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا. والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعَسُر عليه.
والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ، ويكون للانسان أن يختار إِحداهما، ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أُختان، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «طلق إِحداهما» ذكره القاضي أبو يعلى.


قوله: {والمحصنات من النساء} أما سبب نزولها، فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهن.
وأما خلاف القُرّاء، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها، وقرأ سائر القرآن بالكسر، و{المحصِنات} و{محصِنات}. قال ابن قتيبة: والإِحصان: أن يحمي الشيء، ويمنع منه، فالمحصنات من النساء: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهن، ومنعوا منهن: قال الله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} والمحصنات: الحرائر وإن لم يكنَّ متزوجات، لأن الحرّة تُحصَن وتَحصِن، وليست كالأمة، قال الله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء: 25] وقال: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] يعني: الحرائر والمحصنات: العفائف قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] يعني العفائف. وقال الله تعالى: {ومريمَ ابنةَ عمران التي أحصنت فرجها} [لتحريم: 12] أي: عفت.
وفي المراد بالمحصنات هاهنا ثلاثة أقوال.
أحدها: ذوات الأزواج، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن جبير، والنخعي، وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.
والثاني: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي.
والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذُكِرْنَ في أول السورة، روي عن ابن عباس، وعبيدة.
فعلى القول الأول في معنى قوله: {إلا ما ملكت أيمانكم} قولان:
أحدهما: أن معناه: إِلاَّ ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأوَّلَ الآية عليٌ، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقاً.
والثاني: إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ذوات الأزواج، بسبي أو غير سبي، وعلى هذا تأوَّلَ الآية ابنُ مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وجابر، وأنس، وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقاً. وقد ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن: أنهم قالوا بيع الأمة طلاقها، والأول أصح.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة إِذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوَّجها منه سادتُها في حال رقّها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إِيّاها طلاقاً، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إِياها معنى. ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية.
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إِلا بملك، والملك يكون عقداً، ويكون ملك يمين.
وعلى القول الثالث: الحرائِر حرام بعد الأربع إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء، فانهن لم يُحصَرن بعدد.
قوله تعالى: {كتابَ الله عليكم} قال الزجاج: هو منصوب على التوكيد، محمول على المعنى، لأن معنى {حرمت عليكم أمهاتكم}: كتب الله عليكم هذا كتاباً، قال: ويجوز أن ينتصبَ على جهة الأمر، ويكون {عليكم} مفسراً له، فيكون المعنى: إلزموا كتاب الله. قال: {وأُحِل لكم ما وراء ذلكم} أي: ما بعد هذه الأشياء، إِلا أن السُّنة، قد حرَّمت تزويج المرأة على عمتها، وتزويجها على خالتها وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: {كتب الله عليكم} بفتح الكاف، والتاء، والباء، من غير ألف، ورفع الهاء، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: وأحَلَّ بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الألف.
فصل:
قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إِلى أن قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النسخ. وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث.
قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} أي: تطلبوا إِمَّا بصداق في نكاح، أو ثمن في ملك {محصِنين} قال ابن قتيبة: متزوّجين، وقال الزجاج: عاقدين التزويج، وقال غيرهما: متعفّفين غير زانين. والسفاح: الزنى، قال ابن قتيبة: أصله من سفحت القربة: إِذا صببتها، فسُمّي الزنى سفاحاً، لأن يسافح يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد، ولا نكاح، فهو كالشيء يسفح ضياعاً.
قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} فيه قولان:
أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور.
والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مُسمىً من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس: أنه كان يفتي بجواز المتعة، ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسّري القُرّاء، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلُّف لا يُحتاج إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة، ثم منع منها فكان قوله منسوخاً بقوله. وأما الآية، فإنها لم تتضمّن جواز المتعة. لأنه تعالى قال فيها: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} فدل ذلك على النكاح الصحيح. قال الزجاج: ومعنى قوله:
{فما استمتعتم به منهن} فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت، وهو قوله: {محصنين غير مسافحين} أي: عاقدين التزويج {فآتوهن أجورهنَّ} أي: مهورهن. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ، وجهل اللغة.
قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} فيه ستة أقوال.
أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها، ووهبته لزوجها، هذا مروي عن ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام، أو فرقة بعد أداء الفريضة، روي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يُبرِئنكم، قاله أبو سليمان التيمي.
والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء، قاله السدي: وهو يعود إلى قصّة المتعة.
والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجاج.
والسادس: أنه عام في الزيادة، والنقصان، والتأخير، والإِبراء، قاله القاضي أبو يعلى.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11